فصل: التّعريف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


استخارةٌ

التّعريف

1 - الاستخارة لغةً‏:‏ طلب الخيرة في الشّيء‏.‏ يقال‏:‏ استخر اللّه يخر لك‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها»‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ طلب الاختيار‏.‏ أي طلب صرف الهمّة لما هو المختار عند اللّه والأولى، بالصّلاة، أو الدّعاء الوارد في الاستخارة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الطّيرة‏:‏

2 - الطّيرة‏:‏ ما يتشاءم به من الفأل الرّديء، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم «أنّه كان يحبّ الفأل، ويكره الطّيرة»‏.‏

ب - الفأل‏:‏

3 - الفأل ما يستبشر به، كأن يكون مريضاً فيسمع من يقول‏:‏ يا سالمٌ، أو يكون طالباً فيسمع من يقول‏:‏ يا واجدٌ، وفي الحديث‏:‏ «كان صلى الله عليه وسلم يحبّ الفأل»‏.‏

ج - الرّؤيا‏:‏

4 - الرّؤيا بالضّمّ مهموزاً، وقد يخفّف‏:‏ ما رأيته في منامك‏.‏

د - الاستقسام‏:‏

5 - الاستقسام بالأزلام‏:‏ هو ضربٌ بالقداح ليخرج له قدحٌ منها يأتمر بما كتب عليه، وهو منهيٌّ عنه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏‏.‏

هـ - الاستفتاح‏:‏

6 - الاستفتاح‏:‏ طلب النّصر وفي الحديث‏:‏ «كان صلى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين» وبعض النّاس قد يستفتح ويستطلع الغيب من المصحف أو الرّمل أو القرعة، وهذا لا يجوز لحرمته‏.‏ قال الطّرطوشي وأبو الحسن المغربيّ وابن العربيّ‏:‏ هو من الأزلام، لأنّه ليس لأحدٍ أن يتعرّض للغيب ويطلبه؛ لأنّ اللّه قد رفعه بعد نبيّه صلى الله عليه وسلم إلاّ في الرّؤيا‏.‏

صفتها‏:‏ حكمها التّكليفي

7 - أجمع العلماء على أنّ الاستخارة سنّةٌ، ودليل مشروعيّتها ما رواه البخاريّ عن جابرٍ رضي الله عنه قال‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها، كالسّورة من القرآن‏:‏ إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثمّ يقول»‏:‏ إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سعادة ابن آدم استخارة اللّه عزّ وجلّ»‏.‏

حكمة مشروعيّتها

8 - حكمة مشروعيّة الاستخارة، هي التّسليم لأمر اللّه، والخروج من الحول والطّول، والالتجاء إليه سبحانه‏.‏ للجمع بين خيري الدّنيا والآخرة‏.‏ ويحتاج في هذا إلى قرع باب الملك، ولا شيء أنجع لذلك من الصّلاة والدّعاء؛ لما فيها من تعظيم اللّه، والثّناء عليه، والافتقار إليه قالاً وحالاً‏.‏

سببها‏:‏ ما يجري فيه الاستخارة

9 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ الاستخارة تكون في الأمور الّتي لا يدري العبد وجه الصّواب فيها، أمّا ما هو معروفٌ خيره أو شرّه كالعبادات وصنائع المعروف والمعاصي والمنكرات فلا حاجة إلى الاستخارة فيها، إلاّ إذا أراد بيان خصوص الوقت كالحجّ مثلاً في هذه السّنّة؛ لاحتمال عدوٍّ أو فتنةٍ، والرّفقة فيه، أيرافق فلاناً أم لا ‏؟‏ وعلى هذا فالاستخارة لا محلّ لها في الواجب والحرام والمكروه، وإنّما تكون في المندوبات والمباحات‏.‏ والاستخارة في المندوب لا تكون في أصله؛ لأنّه مطلوبٌ، وإنّما تكون عند التّعارض، أي إذا تعارض عنده أمران أيّهما يبدأ به أو يقتصر عليه ‏؟‏ أمّا المباح فيستخار في أصله‏.‏ وهل يستخير في معيّنٍ أو مطلقٍ ‏؟‏ اختار بعضهم الأوّل؛ لظاهر الحديث‏.‏ لأنّ فيه «إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر» إلخ، واختار ابن عرفة الثّاني، وقال الشّعرانيّ‏:‏ وهو أحسن، وقد جرّبناه فوجدناه صحيحاً‏.‏

متى يبدأ الاستخارة ‏؟‏

10 - ينبغي أن يكون المستخير خالي الذّهن، غير عازمٍ على أمرٍ معيّنٍ، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث‏:‏ «إذا همّ» يشير إلى أنّ الاستخارة تكون عند أوّل ما يرد على القلب، فيظهر له ببركة الصّلاة والدّعاء ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكّن الأمر عنده، وقويت فيه عزيمته وإرادته، فإنّه يصير إليه ميلٌ وحبٌّ، فيخشى أن يخفى عنه الرّشاد؛ لغلبة ميله إلى ما عزم عليه‏.‏ ويحتمل أن يكون المراد بالهمّ العزيمة؛ لأنّ الخاطر لا يثبت فلا يستمرّ إلاّ على ما يقصد التّصميم على فعله من غير ميلٍ‏.‏ وإلاّ لو استخار في كلّ خاطرٍ لاستخار فيما لا يعبأ به، فتضيع عليه أوقاته‏.‏ ووقع في حديث أبي سعيدٍ «إذا أراد أحدكم أمراً فليقل‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

الاستشارة قبل الاستخارة

11 - قال النّوويّ‏:‏ يستحبّ أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حاله النّصيحة والشّفقة والخبرة، ويثق بدينه ومعرفته‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ وإذا استشار وظهر أنّه مصلحةٌ، استخار اللّه تعالى في ذلك‏.‏ قال ابن حجرٍ الهيثميّ‏:‏ حتّى عند المعارض ‏(‏أي تقدّم الاستشارة‏)‏ لأنّ الطّمأنينة إلى قول المستشار أقوى منها إلى النّفس لغلبة حظوظها وفساد خواطرها‏.‏ وأمّا لو كانت نفسه مطمئنّةً صادقةٌ إرادتها متخلّيةً عن حظوظها، قدّم الاستخارة‏.‏

كيفيّة الاستخارة

12 - ورد في الاستخارة حالاتٌ ثلاثٌ‏:‏

الأولى‏:‏ وهي الأوفق، واتّفقت عليها المذاهب الأربعة، تكون بركعتين من غير الفريضة بنيّة الاستخارة، ثمّ يكون الدّعاء المأثور بعدها‏.‏

الثّانية‏:‏ قال بها المذاهب الثّلاثة‏:‏ الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة، تجوز بالدّعاء فقط من غير صلاةٍ، إذا تعذّرت الاستخارة بالصّلاة والدّعاء معاً‏.‏

الثّالثة‏:‏ ولم يصرّح بها غير المالكيّة، والشّافعيّة، فقالوا‏:‏ تجوز بالدّعاء عقب أيّ صلاةٍ كانت مع نيّتها، وهو أولى، أو بغير نيّتها كما في تحيّة المسجد‏.‏ ولم يذكر ابن قدامة إلاّ الحالة الأولى، وهي الاستخارة بالصّلاة والدّعاء‏.‏ وإذا صلّى الفريضة أو النّافلة، ناوياً بها الاستخارة، حصل له بها فضل سنّة صلاة الاستخارة، ولكن يشترط النّيّة؛ ليحصل الثّواب قياساً على تحيّة المسجد، وعضّد هذا الرّأي ابن حجرٍ الهيثميّ، وقد خالف بعض المتأخّرين في ذلك ونفوا حصول الثّواب واللّه أعلم‏.‏

وقت الاستخارة

13 - أجاز القائلون بحصول الاستخارة بالدّعاء فقط وقوع ذلك في أيّ وقتٍ من الأوقات؛ لأنّ الدّعاء غير منهيٍّ عنه في جميع الأوقات‏.‏ أمّا إذا كانت الاستخارة بالصّلاة والدّعاء فالمذاهب الأربعة تمنعها في أوقات الكراهة‏.‏ نصّ المالكيّة والشّافعيّة صراحةً على المنع غير أنّ الشّافعيّة أباحوها في الحرم المكّيّ في أوقات الكراهة، قياساً على ركعتي الطّواف‏.‏ لما روي عن جبير بن مطعمٍ‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا بني عبد منافٍ لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى في أيّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ»‏.‏ وأمّا الحنفيّة والحنابلة فلعموم المنع عندهم‏.‏ فهم يمنعون صلاة النّفل في أوقات الكراهة، لعموم أحاديث النّهي، ومنها‏:‏ روى ابن عبّاسٍ قال‏:‏ «شهد عندي رجالٌ مرضيّون، وأرضاهم عندي عمر رضي الله عنه، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الصّلاة بعد الصّبح حتّى تشرق الشّمس، وبعد العصر حتّى تغرب»‏.‏ وعن «عمرو بن عبسة قال‏:‏ قلت يا رسول اللّه‏:‏ أخبرني عن الصّلاة‏.‏ قال‏:‏ صلّ صلاة الصّبح، ثمّ اقصر عن الصّلاة حين تطلع الشّمس حتّى ترتفع، فإنّها تطلع بين قرني الشّيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفّار، ثمّ صلّ فإنّ الصّلاة محضورةٌ مشهودةٌ حتّى يستقلّ الظّلّ بالرّمح، ثمّ اقصر عن الصّلاة فإنّه حينئذٍ تسجر جهنّم، فإذا أقبل الفيء فصلّ، فإنّ الصّلاة مشهودةٌ محضورةٌ حتّى تصلّي العصر، ثمّ اقصر عن الصّلاة حتّى تغرب الشّمس، فإنّها تغرب بين قرني الشّيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفّار»

كيفيّة صلاة الاستخارة

14 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ الأفضل في صلاة الاستخارة أن تكون ركعتين‏.‏ ولم يصرّح الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، بأكثر من هذا، أمّا الشّافعيّة فأجازوا أكثر من الرّكعتين، واعتبروا التّقييد بالرّكعتين لبيان أقلّ ما يحصل به‏.‏

القراءة في صلاة الاستخارة

15 - فيما يقرأ في صلاة الاستخارة ثلاثة آراءٍ‏:‏

أ - قال الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة‏:‏ يستحبّ أن يقرأ في الرّكعة الأولى بعد الفاتحة ‏{‏قل يا أيّها الكافرون‏}‏، وفي الثّانية ‏{‏قل هو اللّه أحدٌ‏}‏‏.‏ وذكر النّوويّ تعليلاً لذلك فقال‏:‏ ناسب الإتيان بهما في صلاةٍ يراد منها إخلاص الرّغبة وصدق التّفويض وإظهار العجز، وأجازوا أن يزاد عليهما ما وقع فيه ذكر الخيرة من القرآن الكريم‏.‏

ب - واستحسن بعض السّلف أن يزيد في صلاة الاستخارة على القراءة بعد الفاتحة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربّك يخلق ما يشاء ويختار‏.‏ ما كان لهم الخيرة سبحان اللّه وتعالى عمّا يشركون‏.‏ وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون‏.‏ وهو اللّه لا إله إلاّ هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون‏}‏‏.‏ في الرّكعة الأولى، وفي الرّكعة الثّانية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً‏}‏

ج - أمّا الحنابلة وبعض الفقهاء فلم يقولوا بقراءةٍ معيّنةٍ في صلاة الاستخارة‏.‏

دعاء الاستخارة

16 - روى البخاريّ ومسلمٌ عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها، كالسّورة من القرآن إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل‏:‏ اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب‏.‏ اللّهمّ إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسّره لي، ثمّ بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاصرفه عنّي واصرفني عنه‏.‏ واقدر لي الخير حيث كان، ثمّ رضّني به‏.‏ قال‏:‏ ويسمّي حاجته»‏.‏ قال الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة‏:‏ يستحبّ افتتاح الدّعاء المذكور وختمه بالحمد للّه والصّلاة والتّسليم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

استقبال القبلة في الدّعاء

17 - يستقبل القبلة في دعاء الاستخارة رافعاً يديه مراعياً جميع آداب الدّعاء‏.‏

موطن دعاء الاستخارة

18 - قال الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة‏:‏ يكون الدّعاء عقب الصّلاة، وهو الموافق لما جاء في نصّ الحديث الشّريف عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وزاد الشّوبريّ وابن حجرٍ من الشّافعيّة، والعدويّ من المالكيّة جوازه في أثناء الصّلاة في السّجود، أو بعد التّشهّد‏.‏

ما يطلب من المستخير بعد الاستخارة

19 - يطلب من المستخير ألاّ يتعجّل الإجابة؛ لأنّ ذلك مكروهٌ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل‏.‏ يقول‏:‏ دعوت فلم يستجب لي»‏.‏ كما يطلب منه الرّضا بما يختاره اللّه له‏.‏

تكرار الاستخارة

20 - قال الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة‏:‏ ينبغي أن يكرّر المستخير الاستخارة بالصّلاة والدّعاء سبع مرّاتٍ؛ لما روى ابن السّنّيّ عن أنسٍ‏.‏ قال‏:‏ «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أنس إذا هممت بأمرٍ فاستخر ربّك فيه سبع مرّاتٍ، ثمّ انظر إلى الّذي يسبق إلى قلبك فإنّ الخير فيه»‏.‏ ويؤخذ من أقوال الفقهاء أنّ تكرار الاستخارة يكون عند عدم ظهور شيءٍ للمستخير، فإذا ظهر له ما ينشرح به صدره لم يكن هناك ما يدعو إلى التّكرار‏.‏ وصرّح الشّافعيّة بأنّه إذا لم يظهر له شيءٌ بعد السّابعة استخار أكثر من ذلك‏.‏ أمّا الحنابلة فلم نجد لهم رأياً في تكرار الاستخارة في كتبهم الّتي تحت أيدينا رغم كثرتها‏.‏

النّيابة في الاستخارة

21 - الاستخارة للغير قال بجوازها المالكيّة، والشّافعيّة أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه»‏.‏ وجعله الحطّاب من المالكيّة محلّ نظرٍ‏.‏ فقال‏:‏ هل ورد أنّ الإنسان يستخير لغيره ‏؟‏ لم أقف في ذلك على شيءٍ، ورأيت بعض المشايخ يفعله‏.‏ ولم يتعرّض لذلك الحنابلة، والحنفيّة‏.‏

أثر الاستخارة

أ - علامات القبول‏:‏

22 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ علامات القبول في الاستخارة انشراح الصّدر، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدّم في ‏(‏فقرة 20‏)‏‏:‏ «ثمّ انظر إلى الّذي سبق إلى قلبك فإنّ الخير فيه» أي فيمضي إلى ما انشرح به صدره، وشرح الصّدر‏:‏ عبارةٌ عن ميل الإنسان وحبّه للشّيء من غير هوًى للنّفس، أو ميلٍ مصحوبٍ بغرضٍ، على ما قرّره العدويّ‏.‏ قال الزّملكانيّ من الشّافعيّة‏:‏ لا يشترط شرح الصّدر‏.‏ فإذا استخار الإنسان ربّه في شيءٍ فليفعل ما بدا له، سواءٌ انشرح له صدره أم لا، فإنّ فيه الخير، وليس في الحديث انشراح الصّدر‏.‏

ب - علامات عدم القبول‏:‏

23 - وأمّا علامات عدم القبول فهو‏:‏ أن يصرف الإنسان عن الشّيء، لنصّ الحديث، ولم يخالف في هذا أحدٌ من العلماء، وعلامات الصّرف‏:‏ ألاّ يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه معلّقاً به، وهذا هو الّذي نصّ عليه الحديث‏:‏ «فاصرفه عنّي واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثمّ رضّني به»‏.‏

استخدامٌ

التّعريف

1 - الاستخدام لغةً‏:‏ سؤال الخدمة، أو اتّخاذ الخادم‏.‏ ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذين المعنيين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستعانة‏:‏

2 - الاستعانة لغةً واصطلاحاً‏:‏ طلب الإعانة‏.‏ فيتّفق الاستخدام مع الاستعانة في أنّ كلاًّ منهما فيه نوع معاونةٍ، غير أنّ الاستخدام يكون من العبد وله، وتكون الاستعانة باللّه تعالى، وقد تكون بالعبد‏.‏

ب - الاستئجار‏:‏

3 - الاستئجار لغةً واصطلاحاً‏:‏ طلب إجارة العين أو الشّخص‏.‏ فبين الاستئجار والاستخدام عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ، فالاستئجار للزّراعة، ورعي الأغنام لا يسمّى خدمةً، وكذلك لا يقال للمستأجر لتعليم القرآن خادمٌ، وينفرد الاستخدام إن كان بغير أجرةٍ‏.‏

الحكم الإجمالي

4 - يختلف حكم الاستخدام باختلاف الخادم والمخدوم، والغرض الدّاعي إلى الاستخدام، ممّا يجعل الأحكام الخمسة تعتريه‏.‏ فالوالي يباح أن يخصّص له خادمٌ - كجزءٍ من عمالته الّتي هي أجرة مثله - ما لم يكن ذلك ترفّهاً»‏.‏ ويكون خلاف الأولى إن استعان بمن يصبّ عليه ماء الوضوء دون عذرٍ‏.‏ فإن استعان بدون عذرٍ في غسل أعضاء الوضوء كره ويكون واجباً، كالعاجز عن الوضوء يستخدم من يعينه على تلك العبادة‏.‏ ويكون مندوباً كخدمة أهل المجاهد وخدمة المسجد‏.‏ ويكون حراماً، كاستئجار الكافر للمسلم، والابن أباه عند من يقول بذلك على ما سيأتي، ويجب على الحاكم منع الاستخدام المحرّم‏.‏ وفي استخدام المسلم للكافر وعكسه، واستخدام الذّكر للأنثى وعكسه تجري القاعدة في أمن الفتنة وعدمه، وفي الامتهان والإذلال وعدمه، وتفصيل ذلك في مصطلح إجارةٌ ‏(‏ف / 102‏)‏

5 - ويمتنع استخدام الابن أباه سواءٌ أكان على سبيل الاستعارة أم على سبيل الاستئجار؛ صيانةً له عن الإذلال‏.‏

6 - والاستخدام حقٌّ للزّوجة، ويجب على الزّوج للزّوجة إخدامها إن كان موسراً، وكانت شريفةً يخدم مثلها، ولا يحلّ للزّوجة استخدام زوجها إذا كان للإهانة والإذلال‏.‏

استخفافٌ

التّعريف

1 - من معاني الاستخفاف لغةً‏:‏ الاستهانة‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك‏.‏ وقد يعبّر الفقهاء عن الاستخفاف بالاحتقار، والازدراء، والانتقاص‏.‏

حكمه التّكليفي

2 - ليس للاستخفاف حكمٌ عامٌّ جامعٌ، وإنّما يختلف حكمه باختلاف ما يتعلّق به‏.‏ فقد يكون محظوراً، وقد يكون مطلوباً‏.‏

فمن المطلوب‏:‏ الاستخفاف بالكافر لكفره، والمبتدع لبدعته، والفاسق لفسقه‏.‏ وكذلك الاستخفاف بالأديان الباطلة والملل المنحرفة، وعدم احترامها، واعتقاد ذلك بين المسلمين أفراداً وجماعاتٍ إذا علم تحريفها، وهذا من الدّين؛ لأنّه استخفافٌ بكفرٍ أو بباطلٍ‏.‏ وأمّا المحظور‏:‏ فهو ما سيأتي‏.‏

ما يكون به الاستخفاف

يكون الاستخفاف بالأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات‏.‏

أ - الاستخفاف باللّه تعالى‏:‏

3 - قد يكون بالقول، مثل الكلام الّذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف في مفهوم النّاس على اختلاف اعتقاداتهم، كاللّعن والتّقبيح، سواءٌ أكان هذا الاستخفاف القوليّ باسمٍ من أسمائه أم صفةٍ من صفاته تعالى، منتهكاً لحرمته انتهاكاً يعلم هو نفسه أنّه منتهكٌ مستخفٌّ مستهزئٌ‏.‏ مثل وصف اللّه بما لا يليق، أو الاستخفاف بأمرٍ من أوامره، أو وعدٍ من وعيده، أو قدره‏.‏ وقد يكون بالأفعال، وذلك بكلّ عملٍ يتضمّن الاستهانة، أو الانتقاص، أو تشبيه الذّات المقدّسة بالمخلوقات، مثل رسم صورةٍ للحقّ سبحانه، أو تصويره في مجسّمٍ كتمثالٍ وغيره‏.‏ وقد يكون بالاعتقاد، مثل اعتقاد حاجة اللّه تعالى إلى الشّريك حكم الاستخفاف باللّه تعالى‏:‏

4 - أجمع الفقهاء على أنّ الاستخفاف باللّه تعالى بالقول، أو الفعل، أو الاعتقاد حرامٌ، فاعله مرتدٌّ عن الإسلام تجري عليه أحكام المرتدّين، سواءٌ أكان مازحاً أم جادّاً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏‏.‏

الاستخفاف بالأنبياء

5 - الاستخفاف بالأنبياء وانتقاصهم والاستهانة بهم، كسبّهم، أو تسميتهم بأسماءٍ شائنةٍ، أو وصفهم بصفاتٍ مهينةٍ، مثل وصف النّبيّ بأنّه ساحرٌ، أو خادعٌ، أو محتالٌ، وأنّه يضرّ من اتّبعه، وأنّ ما جاء به زورٌ وباطلٌ ونحو ذلك‏.‏ فإنّ نظم ذلك شعراً كان أبلغ في الشّتم؛ لأنّ الشّعر يحفظ ويروى، ويؤثّر في النّفوس كثيراً – مع العلم ببطلانه – أكثر من تأثير البراهين، وكذلك إذا استعمل في الغناء أو الإنشاد‏.‏

حكم الاستخفاف بالأنبياء

6 - اتّفق العلماء على أنّ الاستخفاف بالأنبياء حرامٌ، وأنّ المستخفّ بهم مرتدٌّ، وهذا فيمن ثبتت نبوّته بدليلٍ قطعيٍّ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم الّذين يؤذون النّبيّ‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏‏.‏ وسواءٌ أكان المستخفّ هازلاً أم كان جادّاً، لقوله تعالى، ‏{‏قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون‏.‏ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏‏.‏ إلاّ أنّ العلماء اختلفوا في استتابته قبل القتل، فالرّاجح عند الحنفيّة، وقولٌ للمالكيّة، والصّحيح عند الحنابلة، أنّ المستخفّ بالرّسول والأنبياء لا يستتاب بل يقتل، ولا تقبل توبته في الدّنيا؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً‏}‏‏.‏ وقال المالكيّة، وهو الرّاجح عندهم، والشّافعيّة، وهو رأيٌ للحنفيّة، والحنابلة‏:‏ يستتاب مثل المرتدّ، وتقبل توبته إن تاب ورجع، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏ ولخبر‏:‏ «فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم»‏.‏

7 - وفرّق بعض الفقهاء بين الاستخفاف بالسّلف، وبين الاستخفاف بغيرهم، وأرادوا بالسّلف الصّحابة والتّابعين‏.‏ فقال الحنفيّة والشّافعيّة في سابّ الصّحابة وسابّ السّلف‏:‏ إنّه يفسّق ويضلّل، والمعتمد عند المالكيّة أنّه يؤدّب‏.‏ ولكن من سبّ السّيّدة عائشة - بالإفك الّذي برّأها اللّه منه - أو أنكر صحبة أبي بكرٍ الّتي ثبتت بنصّ القرآن يكفر؛ لإنكاره تلك النّصوص الدّالّة على براءتها وصحبة أبيها، ولما روي عن ابن عبّاسٍ أنّه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الّذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدّنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ‏}‏ قال‏:‏ هذا في شأن عائشة وأزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً، وليس فيها توبةٌ‏.‏ وأمّا الاستخفاف بغيرهم من المسلمين، ولو كان مستور الحال، فقد قال فقهاء المذاهب الأربعة‏:‏ إنّه ذنبٌ يوجب العقاب والزّجر على ما يراه السّلطان، مع مراعاة قدر القائل وسفاهته، وقدر المقول فيه؛ لأنّ الاستخفاف والسّخرية من المسلم منهيٌّ عنه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب‏.‏ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان‏}‏‏.‏

حكم الاستخفاف بالملائكة

8 - اتّفق الفقهاء على أنّ من استخفّ بملكٍ، بأن وصفه بما لا يليق به، أو سبّه، أو عرّض به كفر وقتل‏.‏ وهذا كلّه فيما تحقّق كونه من الملائكة بدليلٍ قطعيٍّ كجبريل، وملك الموت، ومالكٍ خازن النّار‏.‏

حكم الاستخفاف بالكتب والصّحف السّماويّة

9 - اتّفق الفقهاء على أنّه من استخفّ بالقرآن، أو بالمصحف، أو بشيءٍ منه، أو جحد حرفاً منه، أو كذب بشيءٍ ممّا صرّح به من حكمٍ أو خبرٍ، أو شكّ في شيءٍ من ذلك، أو حاول إهانته بفعلٍ معيّنٍ، مثل إلقائه في القاذورات كفر بهذا الفعل‏.‏ وقد أجمع المسلمون على أنّ القرآن هو المتلوّ في جميع الأمصار، المكتوب في المصحف الّذي بأيدينا، وهو ما جمعته الدّفّتان من أوّل ‏{‏الحمد للّه ربّ العالمين‏}‏ إلى آخر ‏{‏قل أعوذ بربّ النّاس‏}‏‏.‏ وكذلك من استخفّ بالتّوراة والإنجيل، أو كتب اللّه المنزّلة، أو كفر بها، أو سبّها فهو كافرٌ‏.‏ والمراد بالتّوراة والإنجيل وكتب الأنبياء ما أنزله اللّه تعالى، لا ما في أيدي أهل الكتاب بأعيانها؛ لأنّ عقيدة المسلمين المأخوذة من النّصوص فيها‏:‏ أنّ بعض ما في تلك الكتب باطلٌ قطعاً، وبعضٌ منه صحيح المعنى وإن حرّفوا لفظه‏.‏ وكذلك من استخفّ بالأحاديث النّبويّة الّتي ظهر له ثبوتها‏.‏

الاستخفاف بالأحكام الشّرعيّة

10 - اتّفق الفقهاء على كفر من استخفّ بالأحكام الشّرعيّة من حيث كونها أحكاماً شرعيّةً، مثل الاستخفاف بالصّلاة، أو الزّكاة، أو الحجّ، أو الصّيام، أو الاستخفاف بحدود اللّه كحدّ السّرقة والزّنى‏.‏

الاستخفاف بالأزمنة والأمكنة الفاضلة وغيرها

11 - منع العلماء سبّ الدّهر والزّمان والاستخفاف بهما، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «لا تقولوا خيبة الدّهر، فإنّ اللّه هو الدّهر» وحديث «يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر وأنا الدّهر، بيدي اللّيل والنّهار»‏.‏ وكذلك الأزمنة والأمكنة الفاضلة والاستخفاف بها، فإنّه يأخذ الحكم السّابق من المنع والحرمة‏.‏ أمّا إذا قصد من ذلك الاستخفاف بالشّريعة، كأن يستخفّ بشهر رمضان، أو بيوم عرفة، أو بالحرم والكعبة، فإنّه يأخذ حكم الاستخفاف بالشّريعة أو بحكمٍ من أحكامها، وقد مرّ حكم ذلك‏.‏

استخلافٌ

التّعريف

1 - الاستخلاف لغةً‏:‏ مصدر استخلف فلانٌ فلاناً إذا جعله خليفةً، ويقال‏:‏ خلف فلانٌ فلاناً على أهله وماله صار خليفته، وخلفته جئت بعده، فخليفةٌ يكون بمعنى فاعلٍ، وبمعنى مفعولٍ‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ استنابة الإنسان غيره لإتمام عمله، ومنه استخلاف الإمام غيره من المأمومين لتكميل الصّلاة بهم لعذرٍ قام به، ومنه أيضاً إقامة إمام المسلمين من يخلفه في الإمامة بعد موته، ومنه الاستخلاف في القضاء على ما سيأتي‏.‏ وسيقتصر البحث هنا على الاستخلاف في الصّلاة والقضاء، وأمّا الاستخلاف في الإمامة العظمى فموضع بيانه مصطلح ‏(‏خلافةٌ‏)‏ ومصطلح ‏(‏ولاية العهد‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التّوكيل‏:‏

2 - التّوكيل في اللّغة‏:‏ التّفويض ونحوه الإنابة أو الاستنابة أو النّيابة‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرّفٍ جائزٍ معلومٍ ممّن يملكه‏.‏ ويتبيّن من هذا أنّ الاستخلاف والتّوكيل لفظان متقاربان، إلاّ أنّ مجال الاستخلاف أوسع، إذ هو في بعض إطلاقاته يظهر أثره بعد وفاة المستخلف، ويشمل الصّلاة وغيرها‏.‏ في حين أنّ التّوكيل يقتصر أثره على حياة الموكّل‏.‏

صفة الاستخلاف‏:‏ حكمه التّكليفي

3 - يختلف حكم الاستخلاف باختلاف الأمر المستخلف فيه، والشّخص المستخلف‏.‏ فقد يكون واجباً على المستخلف والمستخلف، كما إذا تعيّن شخصٌ للقضاء، بأن لم يوجد من يصلح ليكون قاضياً غيره، فحينئذٍ يجب على من بيده الاستخلاف أن يستخلفه، ويجب على المستخلف أن يجيبه‏.‏ وقد يكون حراماً كاستخلاف من لا يصلح للقضاء لجهله، أو لطلبه القضاء بالرّشوة‏.‏ وقد يكون مندوباً في مثل ما ذهب إليه المالكيّة من استخلاف الإمام غيره في الصّلاة إذا سبقه حدثٌ ليتمّ الصّلاة بالنّاس، فهو مندوبٌ عندهم على الإمام، وواجبٌ على المأمومين إن لم يستخلف في الجمعة، ومندوبٌ في غيرها‏.‏ وقد يكون الاستخلاف جائزاً، كاستخلاف إمام المسلمين عليهم من يخلفه بعد وفاته، إذ يجوز له أن يترك لهم الاختيار بعده‏.‏

أوّلاً‏:‏ الاستخلاف في الصّلاة‏:‏

4 - مذهب الحنفيّة، والأظهر عند الشّافعيّة، وهو المذهب القديم للشّافعيّ، وإحدى روايتين للإمام أحمد‏:‏ أنّ الاستخلاف جائزٌ في الصّلاة‏.‏ وغير الأظهر عند الشّافعيّة، وروايةٌ أخرى عن الإمام أحمد‏:‏ أنّه غير جائزٍ‏.‏ وقال أبو بكرٍ من الحنابلة‏:‏ إذا سبق الإمام في الصّلاة حدثٌ بطلت صلاته وصلاة المأمومين روايةٌ واحدةٌ‏.‏ ومذهب المالكيّة أنّ استخلاف الإمام لغيره مندوبٌ في الجمعة وغيرها، وواجبٌ على المأمومين، في الجمعة إن لم يستخلف الإمام‏.‏ لأنّه ليس لهم أن يصلّوا الجمعة أفذاذاً، بخلاف غيرها‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو أحدث الإمام وكان الماء في المسجد فإنّه يتوضّأ ويبني، ولا حاجة إلى الاستخلاف، وإن لم يكن في المسجد ماءٌ، فالأفضل الاستخلاف‏.‏ وظاهر المتون أنّ الاستخلاف أفضل في حقّ الكلّ استدلّ المجوّزون بأنّ عمر لمّا طعن - وهو في الصّلاة - أخذ بيد عبد الرّحمن بن عوفٍ فقدّمه، فأتمّ بالمأمومين الصّلاة، وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة وغيرهم، ولم ينكر، فكان إجماعاً‏.‏ واستدلّ المانعون بأنّ صلاة الإمام قد بطلت؛ لأنّه فقد شرط صحّة الصّلاة، فتبطل صلاة المأمومين كما لو تعمّد الحدث‏.‏

كيفيّة الاستخلاف

5 - قال صاحب الدّرّ المختار من الحنفيّة‏:‏ يأخذ الإمام بثوب رجلٍ إلى المحراب، أو يشير إليه، ويفعله محدودب الظّهر، آخذاً بأنفه، يوهم أنّه رعف، ويشير بأصبعٍ لبقاء ركعةٍ، وبأصبعين لبقاء ركعتين، ويضع يده على ركبته لترك ركوعٍ، وعلى جبهته لترك سجودٍ، وعلى فمه لترك قراءةٍ، وعلى جبهته ولسانه لسجود تلاوةٍ، وصدره لسجود سهوٍ‏.‏ ولم يذكر هذا غير الحنفيّة، إلاّ أنّ المالكيّة ذكروا أنّه يندب للإمام إذا خرج أن يمسك بيده على أنفه ستراً على نفسه‏.‏ وإذا حصل للإمام سبب الاستخلاف في ركوعٍ أو سجودٍ فإنّه يستخلف، كما يستخلف في القيام وغيره، ويرفع بهم من السّجود الخليفة بالتّكبير، ويرفع الإمام رأسه بلا تكبيرٍ؛ لئلاّ يقتدوا به، ولا تبطل صلاة المأمومين إن رفعوا رءوسهم برفعه، وقيل تبطل صلاتهم‏.‏

أسباب الاستخلاف

6 - جمهور الفقهاء يجوّزون الاستخلاف لعذرٍ لا تبطل به صلاة المأمومين، والعذر إمّا خارجٌ عن الصّلاة أو متعلّقٌ بها، والمتعلّق بها إمّا مانعٌ من الإمامة دون الصّلاة، وإمّا مانعٌ من الصّلاة‏.‏ والقائلون بجواز الاستخلاف اتّفقوا على أنّ الإمام إذا سبقه الحدث في الصّلاة من بولٍ، أو ريحٍ أو غيرهما، انصرف واستخلف، وفي كلّ مذهبٍ أسبابٌ وشروطٌ‏.‏

7 - فعند الحنفيّة أنّ لجواز البناء شروطاً، وأنّ الأسباب المجوّزة للاستخلاف هي المجوّزة للبناء‏.‏ والشّروط هي‏:‏

‏(‏أ‏)‏ أن يكون سبب الاستخلاف حدثاً، فلو كانت نجاسةً لم يجز الاستخلاف، حتّى لو كانت من بدنه، خلافاً لأبي يوسف الّذي أجاز الاستخلاف إن كانت النّجاسة خارجةً من بدنه‏.‏

‏(‏ب‏)‏ كون الحدث سماويّاً، وفسّروا السّماويّ بأنّه‏:‏ ما ليس للعبد - ولو غير المصلّي - اختيارٌ فيه، ولا في سببه، فلو أحدث عمداً لا يجوز له الاستخلاف، وكذلك الحكم لو أصابته شجّةٌ أو عضّةٌ، أو سقط عليه حجرٌ من رجلٍ مثلاً عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، لأنّه حدثٌ حصل بصنع العباد‏.‏ وعند أبي يوسف يجوز الاستخلاف؛ لأنّه لا صنع فيه فصار كالسّماويّ‏.‏

‏(‏ج‏)‏ أن يكون الحدث من بدنه، فلو أصابته نجاسةٌ من خارجٍ، أو كان من جنونٍ فلا استخلاف‏.‏

‏(‏د‏)‏ أن يكون الحدث غير موجبٍ للغسل‏.‏

‏(‏هـ‏)‏ ألاّ يكون الحدث نادر الوجود‏.‏

‏(‏و‏)‏ وألاّ يؤدّي المستخلف ركناً مع حدثٍ، ويحترز بذلك عمّا إذا سبقه الحدث وهو راكعٌ أو ساجدٌ فرفع رأسه قاصداً الأداء‏.‏

‏(‏ز‏)‏ وألاّ يؤدّي ركناً مع مشيٍ، كما لو قرأ وهو آيبٌ بعد الطّهارة‏.‏

‏(‏ح‏)‏ وألاّ يفعل فعلاً منافياً، فلو أحدث عمداً بعد سبق الحدث لا يجوز الاستخلاف‏.‏

‏(‏ط‏)‏ وألاّ يفعل فعلاً له منه بدٌّ، فلو تجاوز ماءً إلى أبعد منه بأكثر من قدر صفّين بلا عذرٍ فلا يجوز الاستخلاف‏.‏

‏(‏ي‏)‏ وألاّ يتراخى قدر أداء الرّكن بلا عذرٍ‏.‏ أمّا لو تراخى بعذرٍ كزحمةٍ أو نزول دمٍ فإنّه يبني‏.‏

‏(‏ك‏)‏ وألاّ يظهر حدثه السّابق، كمضيّ مدّة مسحه على الخفّين‏.‏

‏(‏ل‏)‏ وألاّ يتذكّر فائتةً وهو ذو ترتيبٍ، فلو تذّكّرها فلا يصحّ بناؤه حتماً‏.‏

‏(‏م‏)‏ أن يتمّ المؤتمّ في مكانه، وذلك يشمل الإمام الّذي سبقه الحدث، فإنّه يصير مؤتمّاً بعد أن كان إماماً، فإذا توضّأ وكان إمامه لم يفرغ من صلاته فعليه أن يعود ليتمّ صلاته خلف إمامه، إن كان بينهما ما يمنع الاقتداء، فلو أتمّ في مكانه مع وجود ما يمنع الاقتداء فسدت صلاته خاصّةً، وهذا شرطٌ لصحّة بناء من سبقه الحدث على ما سبق من صلاته، لا لصحّة الاستخلاف‏.‏

‏(‏ن‏)‏ أن يستخلف الإمام من يصلح للإمامة، فلو استخلف صبيّاً أو امرأةً أو أمّيّاً - وهو من لا يحسن شيئاً من القرآن - فسدت صلاة الإمام والمأمومين‏.‏ واختلفوا فيما إذا حصر الإمام عن قراءة ما تصحّ به الصّلاة، هل له أن يستخلف أو لا ‏؟‏ فقال أبو يوسف ومحمّدٌ‏:‏ لا يجوز الاستخلاف، لأنّ الحصر عن القراءة يندر وجوده فأشبه الجنابة في الصّلاة، ويتمّ الصّلاة بلا قراءةٍ كالأمّيّ إذا أمّ قوماً أمّيّين، وعنهما روايةٌ أخرى‏:‏ أنّ الصّلاة تفسد، وقال الإمام أبو حنيفة‏:‏ يجوز الاستخلاف؛ لأنّه في باب الحدث جاز للعجز عن المضيّ في الصّلاة، والعجز هنا ألزم؛ لأنّ المحدث قد يجد في المسجد ماءً فيمكنه إتمام صلاته من غير استخلافٍ، أمّا الّذي نسي جميع ما يحفظ فلا يستخلف بإجماع الحنفيّة، لأنّه لا يقدر على الإتمام إلاّ بالتّعلّم والتّعليم والتّذكير، ومتى عجز عن البناء لم يصحّ الاستخلاف عندهم، وذكر الإمام التّمرتاشيّ أنّ الرّازيّ قال‏:‏ إنّما يستخلف إذا لم يمكنه أن يقرأ شيئاً، فإن أمكنه قراءة آيةٍ فلا يستخلف، وإن استخلف فسدت صلاته، وقال صدر الإسلام‏:‏ صورة المسألة إذا كان حافظاً للقرآن إلاّ أنّه لحقه خجلٌ أو خوفٌ فامتنعت عليه القراءة، أمّا إذا نسي فصار أمّيّاً لم يجز الاستخلاف‏.‏

8 - وعند المالكيّة‏:‏ أنّه يندب لمن ثبتت إمامته بالنّيّة وتكبيرة الإحرام أن يستخلف في ثلاثة مواضع‏:‏ الأوّل‏:‏ إذا خشي تلف نفسٍ محترمةٍ - ولو كافرةً - أو تلف مالٍ، سواءٌ أكان المال له أم لغيره، قليلاً كان المال أم كثيراً، ولو كان المال لكافرٍ، وقيّد بعضهم المال بكونه ذا بالٍ بحسب الأشخاص‏.‏ والثّاني‏:‏ إذا طرأ على الإمام ما يمنع الإمامة لعجزٍ عن ركنٍ يعجزه عن الرّكوع أو عن القراءة في بقيّة صلاته، وأمّا عجزه عن السّورة فلا يجيز الاستخلاف‏.‏ والثّالث‏:‏ ما اتّفق عليه جمهور الفقهاء من سبق الحدث أو الرّعاف‏.‏ وإذا طرأ على الإمام ما يمنعه الإمامة كالعجز عن بعض الأركان فإنّه يستخلف ويتأخّر وجوباً بالنّيّة، بأن ينوي المأموميّة، فإن لم ينوها بطلت صلاته‏.‏

9 - وعند الشّافعيّة‏:‏ للإمام أن يستخلف إذا بطلت صلاته، أو أبطلها عمداً، جمعةً كانت أو غيرها، بحدثٍ أو غيره، بشروطٍ هي‏:‏ أن يكون الاستخلاف قبل أن يأتي المأمومون بركنٍ، وأن يكون المستخلف صالحاً للإمامة، وأن يكون مقتدياً بالإمام قبل حدثه، ولو صبيّاً أو متنفّلاً‏.‏

10 - وعند الحنابلة‏:‏ للإمام أن يستخلف إذا سبقه الحدث في الرّواية المقدّمة عندهم، كأن قاء أو رعف، وكذلك إذا تذكّر نجاسةً، أو جنابةً لم يغتسل منها، أو تنجّس في أثناء الصّلاة، أو عجز عن إتمام الفاتحة، أو عن ركنٍ يمنع الائتمام كالرّكوع والسّجود‏.‏

ثانياً‏:‏ الاستخلاف لإقامة الجمعة ونحوها‏:‏

11 - اختلف فقهاء الحنفيّة في جواز الاستخلاف ‏(‏بمعنى الإنابة‏)‏ من الخطيب المأذون له من وليّ الأمر بالخطبة ‏(‏بناءً على اشتراطهم الإذن لإقامة الجمعة‏)‏ وهل يملك الاستنابة للخطبة ‏؟‏ وهذا الاختلاف بين المتأخّرين ناشئٌ من اختلافهم في فهم عبارات مشايخ المذهب‏.‏ فقال صاحب الدّرّ‏:‏ لا يملك ذلك مطلقاً، أي سواءٌ أكان الاستخلاف لضرورةٍ أم لا، إلاّ أن يفوّض إليه ذلك‏.‏ وقال ابن كمالٍ باشا‏:‏ إن دعت إلى الاستخلاف ضرورةٌ جاز، وإلاّ لا، وقال قاضي القضاة محبّ الدّين بن جرباشٍ والتمرتاشي والحصكفيّ والبرهان الحلبيّ وابن نجيمٍ والشرنبلالي‏:‏ يجوز مطلقاً بلا ضرورةٍ، وهذه المسألة خاصّةٌ بالحنفيّة؛ لعدم اشتراط غيرهم إذن وليّ الأمر في الخطبة‏.‏

الاستخلاف في أثناء خطبة الجمعة

12 - يرى الحنفيّة أنّ الطّهارة في الخطبة سنّةٌ مؤكّدةٌ، فلو أنّ الخطيب سبقه الحدث وهو يخطب، فإمّا أن يتمّ الخطبة وهو محدثٌ، وذلك جائزٌ، وإمّا أن يستخلف فيكون حكمه على الخلاف السّابق في جواز الاستنابة في الخطبة‏.‏ أمّا المذاهب الأخرى فالصّحيح عندهم أنّ الطّهارة سنّةٌ وليست واجبةً لصحّة الخطبة، فإذا أحدث جاز له إتمام خطبته، لكن الأفضل الاستخلاف وأمّا على القول بوجوب طهارة الخطيب فإذا أحدث وجب الاستخلاف منه أو من المأمومين، وهل يبدأ المستخلف من حيث انتهى الخطيب الأوّل أم يستأنف الخطبة من أوّلها ‏؟‏ صرّح المالكيّة بأنّه من حيث انتهى الأوّل إن علم، وإلاّ ابتدأ الخطبة‏.‏

الاستخلاف في صلاة الجمعة

13 - ذهب الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة - في الجديد - والحنابلة في روايةٍ هي المذهب إلى‏:‏ جواز الاستخلاف في صلاة الجمعة لعذرٍ، هذا إذا أحدث الإمام بعد الخطبة وقبل الشّروع في الصّلاة فقدّم رجلاً يصلّي بالنّاس، فإن كان المقدّم ممّن شهد الخطبة أو شيئاً منها جاز اتّفاقاً، وإن لم يكن شهد شيئاً من الخطبة، أو كان الحدث في أثناء الصّلاة فهناك تفصيلٌ في المذاهب إليك بيانه‏:‏

14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن لم يكن المقدّم قد شهد شيئاً من الخطبة فإن استخلفه الإمام قبل أن يشرع في الصّلاة لم يجز الاستخلاف، وعلى من يؤمّهم أن يصلّي بهم الظّهر أربعاً؛ لأنّه منشئٌ للجمعة، وليس ببانٍ تحريمته على تحريمة الإمام، والخطبة شرط إنشاء الجمعة ولم توجد‏.‏ أمّا لو شرع الإمام في الصّلاة ثمّ أحدث، فقدّم رجلاً جاء ساعة الإقامة، أي لم يشهد شيئاً من الخطبة جاز وصلّى بهم الجمعة؛ لأنّ تحريمة الأوّل انعقدت للجمعة لوجود شرطها وهو الخطبة، والثّاني بنى تحريمته على تحريمة الإمام‏.‏ والخطبة شرط انعقاد الجمعة في حقّ من ينشئ التّحريمة في الجمعة، لا في حقّ من يبني تحريمته على تحريمة غيره، بدليل أنّ المقتدي بالإمام تصحّ جمعته وإن لم يدرك الخطبة لهذا المعنى، فكذا إذا استخلف الإمام بعدما شرع في الصّلاة‏.‏ وذكر الحاكم في المختصر‏:‏ أنّ الإمام إذا أحدث وقدّم رجلاً لم يشهد الخطبة، فأحدث المقدّم قبل الشّروع لم يجز للثّاني الاستخلاف؛ لأنّه ليس من أهل إقامة الجمعة بنفسه‏.‏

15 - وذهب المالكيّة إلى أنّه لو أحدث بعد الخطبة، أو بعدما أحرم، فاستخلف من لم يشهدها فصلّى بهم أجزأتهم، وإن خرج الإمام ولم يستخلف لم يصلّوا أفذاذاً، ويستخلفون من يتمّ بهم، وأولى أن يقدّموا من شهد الخطبة، وإن استخلفوا من لم يشهدها أجزأتهم، ولا يجوز استخلاف من لا تجب عليه الجمعة كالمسافر، وقال مالكٌ‏:‏ أكره استخلاف من لم يشهد الخطبة‏.‏

16 - وذهب الشّافعيّ في القديم إلى أنّه لا يستخلف، وفي الجديد يستخلف، فعلى القول القديم إن أحدث الإمام بعد الخطبة وقبل الإحرام لم يجز له أن يستخلف؛ لأنّ الخطبتين مع الرّكعتين كالصّلاة الواحدة، فلمّا لم يجز أن يستخلف في صلاة الظّهر بعد الرّكعتين - كما لا يجوز فيهما - لم يجز له أن يستخلف في صلاة الجمعة بعد الخطبتين، وإن أحدث بعد الإحرام ففيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ يتمّون الجمعة فرادى؛ لأنّه لمّا لم يجز الاستخلاف بقوا على حكم الجماعة، فجاز لهم أن يصلّوا فرادى‏.‏ والثّاني‏:‏ أنّه إذا كان الحدث قبل أن يصلّي بهم ركعةً صلّوا الظّهر، وإن كان بعض الرّكعة صلّوا ركعةً أخرى فرادى ‏(‏كالمسبوق إذا لم يدرك ركعةً أتمّ الظّهر، وإن أدرك ركعةً أتمّ جمعةً‏)‏‏.‏ أمّا في المذهب الجديد فإن استخلفه من لم يحضر الخطبة لم يجز؛ لأنّ من حضر كمّل - أي العدد المطلوب وهو أربعون - بالسّماع فانعقدت به الجمعة، ومن لم يحضر لم يكمل، فلم تنعقد به الجمعة، ولهذا لو خطب بأربعين فقاموا وصلّوا الجمعة جاز، ولو حضر أربعون لم يحضروا الخطبة فصلّوا الجمعة لم يجز‏.‏ وإن كان الحدث بعد الإحرام‏.‏ فإن كان في الرّكعة الأولى فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز؛ لأنّه من أهل الجمعة، وإن استخلف مسبوقاً لم يكن معه قبل الحدث لم يجز؛ لأنّه ليس من أهل الجمعة، ولهذا لو صلّى المستخلف المسبوق بانفراده الجمعة لم تصحّ‏.‏ وإن كان الحدث في الرّكعة الثّانية‏.‏ فإن كان قبل الرّكوع فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز، وإن استخلف من لم يكن معه قبل الحدث لم يجز، وإن كان بعد الرّكوع فاستخلف من لم يحضر قبل الحدث لم يجز‏.‏

17 - وعند الحنابلة‏:‏ السّنّة أن يتولّى الصّلاة من يتولّى الخطبة؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتولاّهما بنفسه، وكذلك خلفاؤه من بعده‏.‏ فإن خطب رجلٌ وصلّى آخر لعذرٍ جاز، نصّ عليه أحمد وهو المذهب‏.‏ وإن لم يوجد عذرٌ فقال أحمد‏:‏ لا يعجبني من غير عذرٍ فيحتمل المنع، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتولاّهما، وقد قال‏:‏ «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»‏.‏ ولأنّ الخطبة أقيمت مقام ركعتين، ويحتمل الجواز – مع الكراهة – لأنّ الخطبة منفصلةٌ عن الصّلاة فأشبهتا صلاتين‏.‏

وهل يشترط أن يكون المستخلف ممّن حضر الخطبة ‏؟‏ فيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يشترط ذلك، وهو قول كثيرٍ من الفقهاء؛ لأنّه إمامٌ في الجمعة فاشترط حضوره الخطبة، كما لو لم يستخلف‏.‏

والثّانية‏:‏ لا يشترط؛ لأنّه ممّن تنعقد به الجمعة، فجاز أن يؤمّ فيها كما لو حضر الخطبة‏.‏ وقد روي عن أحمد أنّه لا يجوز الاستخلاف لعذرٍ ولا لغيره، قال في رواية حنبلٍ‏:‏ في الإمام إذا أحدث بعدما خطب، فقدّم رجلاً يصلّي بهم، لم يصلّ بهم إلاّ أربعاً، إلاّ أن يعيد الخطبة ثمّ يصلّي بهم ركعتين، وذلك لأنّ هذا لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من خلفائه‏.‏

الاستخلاف في العيدين

18 - إذا أحدث الإمام في أثناء صلاة العيد فإنّه تجري عليه الأحكام السّابقة في الاستخلاف في أيّ صلاةٍ‏.‏ أمّا إذا أحدث الإمام يوم العيد قبل الخطبة بعد الصّلاة فقد صرّح المالكيّة‏:‏ أنّه يخطب النّاس على غير وضوءٍ، ولا يستخلف‏.‏ وقواعد غيرهم لا تأبى ذلك، على ما مرّ في الاستخلاف في خطبة الجمعة‏.‏

الاستخلاف في صلاة الجنازة

19 - ذهب الحنفيّة في الصّحيح عندهم، والمالكيّة، والحنابلة إلى جواز الاستخلاف في صلاة الجنازة‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ أنّ للإمام إذا استخلف فذهب فتوضّأ، وقد بقي بعض التّكبير من الصّلاة على الجنازة، أن يرجع فيصلّي ما أدرك، ويقضي ما فاته، وإن شاء ترك‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا اجتمع وليّان في درجةٍ واحدةٍ، وكان أحدهما أفضل، كان أولى بالصّلاة، فإن أراد أن يستنيب أجنبيّاً - أي غير وليٍّ - ففي تمكينه من ذلك وجهان، حكاهما صاحب العدّة‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّه لا يمكّن إلاّ برضاء الآخر‏.‏

الاستخلاف في صلاة الخوف

20 - المالكيّة، والشّافعيّة هم الّذين تكلّموا عن الاستخلاف في صلاة الخوف في السّفر، ولم نقف للحنفيّة والحنابلة على نصٍّ في هذا الموضوع‏.‏

21 - فعند المالكيّة‏:‏ إذا صلّى الإمام ركعةً من صلاة الخوف، ثمّ أحدث قبل قيامه إلى الثّانية، فليقدّم من يؤمّهم، ثمّ يثبت المستخلف، ويتمّ من خلفه صلاتهم، وهو قائمٌ ساكتاً أو داعياً، ثمّ تأتي الطّائفة الأخرى فيصلّي بهم ركعةً ويسلّم، ثمّ تتمّ هذه الطّائفة الرّكعة الثّانية‏.‏ ولو أحدث بعد قيامه إلى الثّانية فلا يستخلف؛ لأنّ من خلفه خرجوا من إمامته بالاقتداء به في ركعةٍ، حتّى لو تعمّد حينئذٍ الحدث أو الكلام لم تفسد عليهم‏.‏ فإذا أتمّ هؤلاء الرّكعة الثّانية وذهبوا أتت الطّائفة الأخرى بإمامٍ فقدّموه‏.‏

22 - وقال الإمام الشّافعيّ‏:‏ إذا أحدث الإمام في صلاة الخوف فهو كحدثه في غيرها، وأحبّ إليّ ألاّ يستخلف أحداً‏.‏ فإن كان أحدث في الرّكعة الأولى أو بعدما صلاّها، وهو واقفٌ في الرّكعة الثّانية فقرأ ولم تدخل معه الطّائفة الثّانية، قضت الطّائفة الأولى ما عليهم من الصّلاة، وأمّ الطّائفة الأخرى إمامٌ منهم، أو صلّوا فرادى، ولو قدّم رجلاً فصلّى بهم أجزأ عنهم إن شاء اللّه تعالى‏.‏ وإذا أحدث الإمام وقد صلّى ركعةً وهو قائمٌ يقرأ - ينتظر فراغ الّتي خلفه - وقف الّذي قدّم كما يقف الإمام، وقرأ في وقوفه، فإذا فرغت الطّائفة الّتي خلفه‏.‏ ودخلت الطّائفة الّتي وراءه قرأ بأمّ القرآن وقدر سورةٍ، ثمّ ركع بهم، وكان في صلاته لهم كالإمام الأوّل لا يخالفه في شيءٍ إذا أدرك الرّكعة الأولى مع الإمام الأوّل، وانتظرهم حتّى يتشهّدوا ثمّ يسلّم بهم، وهناك صورٌ أخرى نادرةٌ، موطن بيانها صلاة الخوف‏.‏

من يحقّ له الاستخلاف

23 - مذهب الحنفيّة‏:‏ أنّ الاستخلاف حقّ الإمام‏.‏ فلو استخلف هو شخصاً، واستخلف المأمومون سواه، فالخليفة من قدّمه الإمام، فمن اقتدى بمن قدّمه المأمومون فسدت صلاته، وإن قدّم الإمام واحداً، أو تقدّم بنفسه لعدم استخلاف الإمام جاز إن قام مقام الأوّل قبل أن يخرج من المسجد، ولو خرج منه فسدت صلاة الكلّ دون الإمام، ولو تقدّم رجلان فالأسبق أولى‏.‏

24 - ومذهب المالكيّة‏:‏ أنّ استخلاف الإمام لغيره مندوبٌ، وللإمام ترك الاستخلاف، ويترك المصلّين ليستخلفوا بأنفسهم أحدهم، وإنّما ندب له الاستخلاف؛ لأنّه أعلم بمن يستحقّ التّقديم فهو من التّعاون على البرّ؛ ولئلاّ يؤدّي تركه إلى التّنازع فيمن يتقدّم فتبطل صلاتهم، فإن لم يستخلف ندب ذلك للمأمومين، وإن تقدّم غير من استخلفه الإمام وأتمّ بهم صحّت صلاتهم‏.‏

25 - ومذهب الشّافعيّة‏:‏ أنّ الإمام أو القوم إن قدّموا رجلاً فأتمّ لهم ما بقي من الصّلاة أجزأتهم صلاتهم، على أنّ من قدّمه المأمون أولى ممّن قدّمه الإمام لأنّ الحظّ لهم، إلاّ إذا كان الإمام راتباً فمقدّمه أولى‏.‏ وإن تقدّم واحدٌ بنفسه جاز‏.‏

26 - ومذهب الحنابلة‏:‏ وهو إحدى روايتين عندهم، أنّ للإمام أن يستخلف من يتمّ الصّلاة بالمأمومين، فإن لم يفعل فقدّم المأمون رجلاً فأتمّ بهم جاز‏.‏

من يصحّ استخلافه، وأفعال المستخلف

27 - المنصوص عليه في مذاهب الفقهاء‏:‏ أنّ كلّ من يصلح إماماً ابتداءً يصحّ استخلافه، ومن لا يصلح ابتداءً لا يصحّ استخلافه، وفي كلّ مذهبٍ تفصيلاتٌ‏:‏

28 - فعند الحنفيّة‏:‏ الأولى للإمام ألاّ يستخلف مسبوقاً، وإن استخلفه ينبغي له ألاّ يقبل، وإن قبل جاز، ولو تقدّم يبتدئ من حيث انتهى إليه الإمام، وإذا انتهى إلى السّلام يقدّم مدركاً يسلّم بهم، ولو أنّ الخليفة المسبوق حين أتمّ الصّلاة الّتي ابتدأها الإمام المستخلف أتى بمبطلٍ لصلاته - كأن قهقه أو أحدث متعمّداً أو تكلّم أو خرج من المسجد - فسدت صلاته، وصلاة القوم تامّةٌ‏.‏ أمّا فساد صلاته فلأنّه أتى بمبطلٍ قبل إكمال ما سبق به، وأمّا صحّة صلاة القوم فلأنّ المبطل المتعمّد تمّت به صلاتهم لتحقّق الرّكن، وهو الخروج بالصّنع، والإمام إن كان فرغ من صلاته فصلاته صحيحةٌ، وإن لم يكن فرغ تفسد صلاته في الأصحّ‏.‏ ولو اقتدى رجلٌ بالإمام في صلاةٍ رباعيّةٍ فأحدث الإمام، وقدّم الإمام هذا الرّجل، والمقتدي لا يدري كم صلّى الإمام وكم بقي عليه ‏؟‏ فإنّ المقتدي يصلّي أربع ركعاتٍ، ويقعد في كلّ ركعةٍ احتياطاً‏.‏ ولو استخلف لاحقاً فللخليفة أن يشير للمأمومين حتّى يؤدّي ما عليه من الصّلاة، ثمّ يتمّ بهم الصّلاة‏.‏ ولو لم يفعل ذلك ومضى على صلاة الإمام، وأخّر ما عليه حتّى انتهى إلى موضع السّلام، واستخلف من سلّم بهم جاز‏.‏ وإذا كان خلف الإمام شخصٌ واحدٌ، وأحدث الإمام تعيّن ذلك الواحد للإمامة، عيّنه الإمام بالنّيّة أو لم يعيّنه‏.‏ ولو اقتدى مسافرٌ بمسافرٍ فأحدث الإمام، فاستخلف مقيماً لم يلزم المسافر الإتمام‏.‏

29 - وقال المالكيّة‏:‏ إنّه يشترط فيمن يصحّ استخلافه أن يدرك مع الإمام الأصليّ قبل العذر جزءاً يعتدّ به من الرّكعة المستخلف هو فيها، قبل الاعتدال من الرّكوع، وإذا استخلف الإمام مسبوقاً صلّى بهم على نظام صلاة الإمام الأوّل، فإذا انتهى إلى الرّكعة الرّابعة بالنّسبة لهم أشار إليهم فجلسوا، وقام ليتمّ صلاته ثمّ يسلّم معهم‏.‏

30 - وعند الشّافعيّة‏:‏ يصحّ استخلاف مأمومٍ يصلّي صلاة الإمام أو مثلها في عدد الرّكعات بالاتّفاق، سواءٌ أكان مسبوقاً أم غيره، وسواءٌ استخلفه في الرّكعة الأولى أم في غيرها؛ لأنّه ملتزمٌ بترتيب الإمام باقتدائه، فلا يؤدّي إلى المخالفة‏.‏ وإذا استخلف مأموماً مسبوقاً لزمه مراعاة ترتيب الإمام، فيقعد موضع قعوده، ويقوم موضع قيامه، كما كان يفعل لو لم يخرج الإمام من الصّلاة‏.‏ فلو اقتدى المسبوق في ثانية الصّبح، ثمّ أحدث الإمام فيها فاستخلفه فيها قنت، وقعد وتشهّد، ثمّ يقنت في الثّانية لنفسه، ولو كان الإمام قد سها قبل اقتداء المستخلف أو بعده، سجد في آخر صلاة الإمام، وأعاد في آخر صلاة نفسه، على أصحّ القولين‏.‏ وإذا أتمّ بالقوم صلاة الإمام قام لتدارك ما عليه، والمأمومون بالخيار إن شاءوا فارقوه وسلّموا، وتصحّ صلاتهم بلا خلافٍ للضّرورة، وإن شاءوا صبروا جلوساً ليسلّموا معه، هذا كلّه إذا عرف المسبوق نظم صلاة الإمام وما بقي منها، فإن لم يعرف فقولان حكاهما صاحب التّلخيص وآخرون، وقيل‏:‏ هما وجهان أقيسهما لا يجوز، وقال الشّيخ أبو عليٍّ‏:‏ أصحّهما الجواز، ونقله ابن المنذر عن الشّافعيّ ولم يذكر غيره، فعلى هذا يراقب المستخلف المأمومين إذا أتمّ الرّكعة، فإن همّوا بالقيام قام وإلاّ قعد‏.‏

31 - وقال الحنابلة‏:‏ يجوز استخلاف المسبوق ببعض الصّلاة، ولمن جاء بعد حدث الإمام، فيبني على ما مضى من صلاة الإمام من قراءةٍ أو ركعةٍ أو سجدةٍ، ويقضي بعد فراغ صلاة المأمومين، وحكي هذا القول عن عمر وعليٍّ وأكثر من وافقهما في الاستخلاف‏.‏ وفيه روايةٌ أخرى أنّه مخيّرٌ بين أن يبني أو يبتدي، فإذا فرغوا من صلاتهم قعدوا وانتظروه حتّى يتمّ ويسلّم معهم؛ لأنّ اتّباع المأمومين للإمام أولى من اتّباعه لهم‏.‏ فإنّ الإمام إنّما جعل ليؤتمّ به وعلى كلتا الرّوايتين إذا فرغ المأمومون قبل فراغ إمامهم، وقام لقضاء ما فاته فإنّهم يجلسون وينتظرون حتّى يتمّ ويسلّم بهم؛ لأنّ الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف، فانتظارهم له أولى، وإن سلّموا ولم ينتظروه جاز‏.‏ وقال ابن عقيلٍ‏:‏ يستخلف من يسلّم بهم، والأولى انتظاره‏.‏ وإن سلّموا لم يحتاجوا إلى خليفةٍ‏.‏ فإنّه لم يبق من الصّلاة إلاّ السّلام، فلا حاجة إلى الاستخلاف فيه، ويقوى عندي أنّه لا يصحّ الاستخلاف في هذه الصّورة؛ لأنّه إن بنى جلس في غير موضع جلوسه وصار تابعاً للمأمومين، وإن ابتدأ جلس المأمومون في غير موضع جلوسهم، ولم يرد الشّرع بهذا، وإنّما ثبت الاستخلاف في موضع الإجماع حيث لم يحتج إلى شيءٍ من هذا، فلا يلحق به ما ليس في معناه‏.‏ وإذا استخلف من لا يدري كم صلّى الإمام، احتمل أن يبني على اليقين، فإن وافق الحقّ وإلاّ سبّحوا به فرجع إليهم، ويسجد للسّهو‏.‏ وفي روايةٍ‏:‏ إنّ المستخلف إن شكّ في عدد الرّكعات الّتي صلاّها الإمام لم يجز له الاستخلاف للشّكّ، كغير المستخلف، ورواية البناء على اليقين بنيت على أنّه شكٌّ ممّن لا ظنّ له فوجب البناء على اليقين كسائر المصلّين‏.‏

ثالثاً‏:‏ استخلاف القاضي

32 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الإمام إذا أذن للقاضي في الاستخلاف فله ذلك، وعلى أنّه إذا نهاه فليس له أن يستخلف، وذلك لأنّ القاضي إنّما يستمدّ ولايته من الإمام، فلا يملك أن يخالفه إذا نهاه، كالوكيل مع الموكّل، فإنّ الموكّل إذا نهى الوكيل عن تصرّفٍ ما فليس له أن يخالفه‏.‏ قال الدّسوقيّ‏:‏ وينبغي أنّ العرف بالاستخلاف وعدمه كالنّصّ على ذلك‏.‏ أمّا إن أطلق الإمام فلم يأذن ولم ينه فهناك اتّجاهاتٌ في المذاهب‏.‏ ذهب الحنفيّة، وابن عبد الحكم، وسحنونٌ من المالكيّة، وهو احتمالٌ في مذهب الحنابلة إلى‏:‏ أنّه لا يجوز أن يستخلف؛ لأنّه يتصرّف بإذن الإمام ولم يأذن له‏.‏ وذهب الحنابلة، وهو وجهٌ للشّافعيّة إلى‏:‏ أنّه يجوز له أن يستخلف مطلقاً‏.‏ والمشهور عند المالكيّة، وهو الوجه الآخر للشّافعيّة أنّه يجوز الاستخلاف لعذرٍ كمرضٍ، أو سفرٍ، أو سعة الجهات المولّى عليها، وذلك لأنّ القاضي في هذه الحالة يحتاج إلى الاستخلاف؛ ولأنّ قرينة الحال تقتضي ذلك، فإن استخلف القاضي - بغير إذنٍ - وقضى المستخلف فإنّ قضاءه ينفذ عند الحنفيّة إذا أنفذه القاضي المستخلف بشرط أن يكون المستخلف بحالٍ يصلح معها أن يكون قاضياً؛ لأنّه بإجازة القاضي المستخلف صار كأنّه هو الّذي قضى‏.‏

33 - ما يثبت به الاستخلاف في القضاء‏:‏ كلّ لفظٍ يفيد الاستخلاف يصحّ به وينعقد، سواءٌ أكان ممّا قاله الفقهاء في ألفاظ تولية القضاء أم لا، وكذلك أيّ دليلٍ أو قرينةٍ يثبت بها الاستخلاف يعمل بها ويعوّل عليها‏.‏

استدانةٌ

التعريف

1 - الاستدانة لغةً‏:‏ الاستقراض وطلب الدّين، أو‏:‏ صيرورة الشّخص مديناً، أو‏:‏ أخذه‏.‏ والمداينة‏:‏ التّبايع بالأجل‏.‏ والقرض‏:‏ هو ما يعطى من المال ليقضى‏.‏ وأمّا في الشّرع فتطلق الاستدانة ويراد بها‏:‏ طلب أخذ مالٍ يترتّب عليه شغل الذّمّة، سواءٌ كان عوضاً في مبيعٍ أو سلمٍ أو إجارةٍ، أو قرضاً، أو ضمان متلفٍ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستقراض‏:‏

2 - الاستقراض‏:‏ طلب القرض، وكلٌّ من القرض والدّين لا بدّ أن يكون ممّا يثبت في الذّمّة‏.‏ وعلى هذا فالاستدانة أعمّ من الاستقراض، إذ الدّين شاملٌ عامٌّ للقرض وغيره‏.‏ وفرّق المرتضى الزّبيديّ بين الاستدانة والاستقراض، بأنّ الاستدانة لا بدّ أن تكون إلى أجلٍ، في حين أنّ الاستقراض لا يكون إلى أجلٍ عند الجمهور، أمّا المالكيّة فيقولون بلزوم الأجل في القرض بالنّسبة للمقرض ‏(‏ر‏.‏ أجلٌ‏)‏‏.‏

ب - الاستلاف‏:‏

3 - الاستلاف لغةً‏:‏ أخذ السّلف، وسلف في كذا وأسلف‏:‏ إذا قدّم الثّمن فيه‏.‏ والسّلف كالسّلم والقرض بلا منفعةٍ أيضاً‏.‏ يقال‏:‏ أسلفه مالاً إذا أقرضه‏.‏ صفة الاستدانة

حكمها التّكليفي

4 - الأصل في الاستدانة الإباحة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه‏}‏‏.‏ ولأنّ النّبيّ كان يستدين‏.‏

وقد تعتريها أحكامٌ أخرى بحسب السّبب الباعث، كالنّدب في حال عسر المدين، وكالوجوب للمضطرّ، وكالتّحريم فيمن يستدين قاصداً المماطلة، أو جحد الدّين‏.‏ وكالكراهة إذا كان غير قادرٍ على الوفاء، وليس مضطرّاً ولا قاصداً المماطلة‏.‏

صيغة الاستدانة

5 - تكون الاستدانة بكلّ ما يدلّ على التزام الذّمّة بدينٍ، قرضاً كان أو سلماً، أو ثمناً لمبيعٍ بأجلٍ ويفصّل الفقهاء ذلك عند الكلام في مصطلح‏:‏ ‏(‏عقدٌ‏)‏ ‏(‏وقرضٌ‏)‏ ‏(‏ودينٌ‏)‏‏.‏

الأسباب الباعثة على الاستدانة‏:‏

أوّلاً‏:‏ الاستدانة لحقوق اللّه تعالى‏:‏

6 - حقوق اللّه تعالى الماليّة، كالزّكاة، لا تثبت في الذّمّة إلاّ على الغنيّ القادر عليها - والغنيّ في كلّ تكليفٍ بحسبه - فلا يكلّف بالاستدانة ليصير ملزماً بشيءٍ منها بالاتّفاق‏.‏ أمّا ما شرط اللّه لوجوبه الاستطاعة، كالحجّ، فإن كان لا يرجو الوفاء فالاستدانة لأجله مكروهةٌ أو حرامٌ عند المالكيّة، وخلاف الأفضل عند الحنفيّة‏.‏ أمّا إن كان يرجو الوفاء فيجب عليه عند المالكيّة، والشّافعيّة، وهو الأفضل عند الحنفيّة‏.‏ وعند الحنابلة - يفهم ممّا في المغني - أنّه إن أمكنه الحجّ بالاستدانة لم يلزمه ذلك، ولكن يستحبّ له إن لم يكن عليه في ذلك ضررٌ أو على غيره‏.‏ فإذا وجبت حقوق اللّه تعالى الماليّة على عبدٍ حال غناه، ثمّ افتقر قبل أدائها، فهل يكلّف بالاستدانة لأدائها ‏؟‏ يفرّق فقهاء الحنفيّة في ذلك بين الحالتين‏:‏ إن لم يكن عنده مالٌ وأراد أن يستقرض، فإن كان في أكبر رأيه أنّه إذا استقرض وأدّى الزّكاة، واجتهد لقضاء دينه يقدر على ذلك، كان الأفضل له أن يستقرض، فإن استقرض وأدّى ولم يقدر على قضاء الدّين حتّى مات، يرجى أن يقضي اللّه تعالى دينه في الآخرة‏.‏ وإن كان أكبر رأيه أنّه إذا استقرض لا يقدر على قضاء الدّين، كان الأفضل له ألاّ يستقرض، لأنّ خصومة صاحب الدّين أشدّ‏.‏ وظاهر هذا أنّه لا يجب عليه الاستقراض على كلّ حالٍ‏.‏ ومذهب الحنابلة أنّه إذا وجبت عليه الزّكاة، فتلف المال بعد وجوبها، فأمكنه أداؤها أدّاها، وإلاّ أمهل إلى ميسرته وتمكّنه من أدائها من غير مضرّةٍ عليه ولا على غيره، قالوا‏:‏ لأنّه إذا لزم الإنظار في دين الآدميّ المعيّن فهذا أولى‏.‏ ولم يتعرّض الشّافعيّة لهذه المسألة فيما اطّلعنا عليه‏.‏

ثانياً‏:‏ الاستدانة لأداء حقوق العباد‏:‏

أ - الاستدانة لحقّ النّفس‏:‏

7 - تجب الاستدانة على المضطرّ لإحياء نفسه؛ لأنّ حفظ النّفس مقدّمٌ على حفظ المال، صرّح به الشّافعيّة، وقواعد غيرهم لا تأباه؛ لما ورد في الضّرورة من نصوصٍ معروفةٍ‏.‏ أمّا الاستدانة لسدّ حاجةٍ من الحاجيّات، فهو جائزٌ إن كان يرجو وفاءً، وإن كان الأولى له أن يصبر‏.‏ لما في الاستدانة من المنّة، قال في الفتاوى الهنديّة‏.‏ لا بأس أن يستدين الرّجل إذا كانت له حاجةٌ لا بدّ منها، وهو يريد قضاءها‏.‏ وكلمة «لا بأس» إذا أطلقها فقهاء الحنفيّة فإنّهم يعنون بها‏:‏ ما كان تركه أولى من فعله‏.‏ أمّا إذا كان لا يرجو وفاءً فتحرم عليه الاستدانة، والصّبر واجبٌ؛ لما في الاستدانة من تعريض مال الغير إلى الإتلاف‏.‏ أمّا الاستدانة من أجل غايةٍ غير مشروعةٍ فإنّه لا يجوز، كما إذا استدان لينفق في وجهٍ غير مشروعٍ، مثل أن يكون عنده من المال ما يكفيه، فيتوسّع في النّفقة‏.‏ ويستدين لأجل أن يأخذ من الزّكاة، فإنّه لا يعطى منها؛ لأنّ قصده مذمومٌ‏.‏

ب - الاستدانة لحقّ الغير‏:‏

أوّلاً - الاستدانة لوفاء الدّين‏:‏

8 - لا يلزم المعسر بالاستدانة لقضاء دين غرمائه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏‏.‏ ولما في ذلك من منّةٍ‏.‏ ولأنّ الضّرر لا يزال بمثله، صرّح بذلك المالكيّة والحنابلة، وقواعد غيرهم لا تأباه‏.‏

ثانياً‏:‏ الاستدانة للنّفقة على الزّوجة‏:‏

9 - اتّفق الفقهاء على أنّ نفقة الزّوجة واجبةٌ، سواءٌ أكان الزّوج موسراً أم معسراً، فإن كان الزّوج حاضراً، وله مالٌ، أنفق من ماله جبراً عنه، وإن كان معسراً فإنّ أئمّة الحنفيّة يرون أنّ القاضي يفرض لها النّفقة، ثمّ يأمرها بالاستدانة عليه، فإن لم تجد من تستدين منه أوجب القاضي نفقتها على من تجب عليه من أقاربها لو لم تكن متزوّجةً، أمّا إن كان غائباً وليس له مالٌ حاضرٌ، فإنّه لا تفرض لها نفقةٌ عليه، خلافاً لزفر، وقوله هو المفتى به عند الحنفيّة‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّ لها الاستدانة، لها ولأولادها ولو بغير إذنٍ، وترجع عليه بما استدانت‏.‏ ومذهب المالكيّة أنّ نفقة الزّوجة تسقط بالإعسار إذا ثبت، أمّا إذا لم يثبت إعساره فلها أن تستدين عليه‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا كان له مالٌ حاضرٌ ينفق عليها منه جبراً عنه‏.‏ وإذا كان لا مال له وهو قادرٌ على الكسب، أجبر على التّكسّب، ويستدين للنّفقة الحاضرة، أمّا إن كان ماله غائباً فإنّه يجبر على الاستدانة، فإن لم يستدن كان لها طلب الفسخ‏.‏

ثالثاً‏:‏ الاستدانة للإنفاق على الأولاد والأقارب‏:‏

10 - نفقة الصّغار من الأولاد الفقراء غير المتكسّبين واجبةٌ في الجملة على الوالد دون غيره في الأصل، فإن امتنع عن الإنفاق عليهم، وكان موسراً، أجبر على ذلك، ويؤمرون بالاستدانة عليه‏.‏ وإن كان معسراً فعند الحنفيّة‏:‏ تؤمر الأمّ بالإنفاق عليهم من مالها إن كانت موسرةً، وإلاّ ألزم بنفقتهم من تجب عليه لو كان الأب ميّتاً، ثمّ يرجع المنفق على الأب إن أيسر‏.‏ وإن كان الأب زمناً اعتبر كالميّت، فلا رجوع للمنفق بل هو تبرّعٌ‏.‏ ومذهب المالكيّة كالحنفيّة في حال اليسار، وينوب عن إذن القاضي عندهم إشهاد المنفق على أنّه أنفق على سبيل الرّجوع، أو يحلف على ذلك‏.‏ أمّا إذا كان معسراً فيعتبر الإنفاق على أولاده تبرّعاً من المنفق، لا رجوع له ولو أيسر الأب بعدئذٍ‏.‏ وعند الشّافعيّة‏:‏ للأولاد الاستدانة بإذن القاضي، ولا رجوع إلاّ إذا حصل الاقتراض بالفعل للمنفق المأذون‏.‏ وذهب الحنابلة إلى أنّه يستدان للأولاد بإذنٍ، لكن لو استدانت الأمّ لها ولأولادها بلا إذنٍ جاز تبعاً للأمّ‏.‏ أمّا الاستدانة لغير الزّوجة والأولاد ففي ذلك تفصيلٌ وخلافٌ كبيرٌ، موطنه «نفقةٌ»‏.‏

الاستدانة ليتمحّض المال حلالاً

11 - إذا أراد أن يحجّ فيستحبّ أن يحجّ بمالٍ حلالٍ، فإن لم يتوفّر له إلاّ مالٌ فيه شبهةٌ، وأراد أن يحجّ بمالٍ حلالٍ، ففي فتاوى قاضي خان‏:‏ يستدين للحجّ، ويقضي دينه من ماله‏.‏

شروط صحّة الاستدانة

الشّرط الأوّل‏:‏ عدم انتفاع الدّائن‏:‏

12 - إنّ انتفاع الدّائن من عمليّة الاستدانة إمّا أن يتمّ بشرطٍ في العقد، أو بغير شرطٍ، فإن كان بشرطٍ فهو حرامٌ بلا خلافٍ، قال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أنّ المسلف - أي الدّائن - إذا شرط على المستلف زيادةً أو هديّةً، فأسلف على ذلك، أنّ أخذ الزّيادة على ذلك رباً، وقد روى عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ «كلّ قرضٍ جرّ منفعةً فهو رباً»‏.‏ وهو وإن كان ضعيف السّند إلاّ أنّه صحيحٌ معنًى، وروي عن أبيّ بن كعبٍ، وعبد اللّه بن عبّاسٍ، وعبد اللّه بن مسعودٍ، أنّهم نهوا عن كلّ قرضٍ جرّ منفعةً للمقرض‏.‏ ولأنّ عقد الاستدانة عقد إرفاقٍ وقربةٍ، واشتراط المنفعة فيه للدّائن إخراجٌ له عن موضوعه، وهو شرطٌ لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، وقد أورد الفقهاء كثيراً من التّطبيقات العمليّة على القرض الّذي يجرّ نفعاً للدّائن‏.‏ ومن ذلك‏:‏ أن يشترط الدّائن أن يردّ له المدين أكثر ممّا أخذ، أو أجود ممّا أخذ، وهذا هو الرّبا بعينه ‏(‏ر‏:‏ رباً‏)‏‏.‏ وليس من ذلك اشتراط الدّائن على المدين أن يعطيه رهناً بالدّين، أو كفيلاً ضماناً لدينه؛ لأنّ هذا شرطٌ يلائم العقد كما سيأتي‏.‏ أمّا إن كانت المنفعة الّتي حصل عليها الدّائن من المدين غير مشروطةٍ، فيجوز ذلك عند جمهور الفقهاء‏:‏ الحنفيّة، والشّافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة‏.‏ وهو مرويٌّ عن عبد اللّه بن عمر، وسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، وعامرٍ الشّعبيّ، والزّهريّ، ومكحولٍ، وقتادة، وإسحاق بن راهويه، وهو إحدى الرّوايتين عن إبراهيم النّخعيّ‏.‏ واستدلّ هؤلاء بما رواه مسلمٌ في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ «أقبلنا من مكّة إلى المدينة مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاعتلّ جملي»‏.‏ وساق الحديث بقصّته، وفيه «ثمّ قال‏:‏ بعني جملك هذا، قال‏:‏ فقلت‏:‏ لا، بل هو لك، قال‏:‏ بل بعنيه، قال‏:‏ قلت‏:‏ لا، بل هو لك يا رسول اللّه، قال‏:‏ لا، بل بعنيه، قال‏:‏ قلت‏:‏ فإنّ لرجلٍ عليّ أوقيّة ذهبٍ فهو لك بها، قال‏:‏ قد أخذته، فتبلّغ عليه إلى المدينة، ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لبلالٍ‏:‏ أعطه أوقيّةً من ذهبٍ وزيادةً، قال‏:‏ فأعطاني أوقيّةً من ذهبٍ وزادني قيراطاً» وهذه زيادةٌ في القدر‏.‏

13 - أمّا الزّيادة في الصّفة‏:‏ فعن أبي رافعٍ مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «أنّ رسول اللّه استسلف من رجلٍ بكراً، فقدمت عليه إبلٌ من إبل الصّدقة، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره، فرجع أبو رافعٍ فقال‏:‏ لم أجد فيها إلاّ خياراً بعيراً رباعيّاً، فقال‏:‏ أعطه إيّاه، إنّ خير النّاس أحسنهم قضاءً»‏.‏ ولأنّه لم يجعل تلك الزّيادة عوضاً عن القرض، ولا وسيلةً إليه، ولا إلى استيفاء دينه‏.‏ وقال بعض المالكيّة، وهي إحدى الرّوايتين عند الحنابلة، وهو المرويّ عن أبيٍّ، وابن عبّاسٍ، وابن عمر، وإحدى الرّوايتين عن النّخعيّ‏:‏ لا يجوز للمقرض قبول هديّة المقترض، ولا الحصول على ما به الانتفاع له، كركوب دابّته، وشرب شيءٍ عنده في بيته، إن لم يكن ذلك معروفاً بينهما قبل القرض، أو حدث ما يستدعي ذلك؛ لزواجٍ وولادةٍ ونحو ذلك‏.‏ قال الدّسوقيّ‏:‏ «والمعتمد جواز الشّرب والتّظلّل، وكذلك الأكل إن كان لأجل الإكرام لا لأجل الدّين» لأنّه إن أخذ فضلاً، أو حصل على منفعةٍ يكون قد تعاطى قرضاً جرّ منفعةً بالفعل، فقد روى الأثرم أنّ رجلاً كان له على، سمّاكٍ عشرون درهماً، فجعل يهدي إليه السّمك ويقوّمه، حتّى بلغ ثلاثة عشر درهماً، فسأل ابن عبّاسٍ، فقال له‏:‏ أعطه سبعة دراهم‏.‏ وعن ابن سيرين أنّ عمر أسلف أبيّ بن كعبٍ عشرة دراهم، فأهدى إليه أبيّ بن كعبٍ من ثمرة أرضه، فردّها عليه ولم يقبلها، فأتاه أبيٍّ فقال‏:‏ لقد علم أهل المدينة أنّي من أطيبهم ثمرةً، وأنّه لا حاجة لنا، فبم منعت هديّتنا ‏؟‏ ثمّ أهدى إليه بعد ذلك فقبل‏.‏ وهذا يدلّ على ردّها عند الشّبهة، وقبولها عند انتفائها‏.‏ وعن زرّ بن حبيشٍ قال‏:‏ قلت لأبيّ بن كعبٍ‏:‏ إنّي أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق، فقال‏:‏ إنّك تأتي أرضاً فاشٍ فيها الرّبا، فإن أقرضت رجلاً قرضاً فأتاك بقرضك، ومعه هديّةٌ، فاقبض قرضك، وأردد عليه هديّته‏.‏ الشّرط الثّاني‏:‏ عدم انضمام عقدٍ آخر‏:‏

14 - يشترط لصحّة الاستدانة ألاّ ينضمّ إليها عقدٌ آخر، سواءٌ اشترط ذلك في عقد الاستدانة، أم تمّ التّوافق عليه خارجه، كأن يؤجّر المستقرض داره للمقرض، أو يستأجر المستقرض دار المقرض، لأنّ «رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعٍ وسلفٍ»‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إليه في ‏(‏البيوع المنهيّ عنها‏)‏‏.‏

الاستدانة من بيت المال، ولبيت المال، ونحوه، كالوقف‏:‏

15 - الأصل في ذلك أنّ الاستدانة لبيت المال، أو منه جائزةٌ شرعاً‏.‏ أمّا الاستدانة منه‏:‏ فلما ورد أنّ أبا بكرٍ استقرض من بيت المال سبعة آلاف درهمٍ، فمات وهي عليه، فأوصى أن تقضى عنه‏.‏ وقال عمر‏:‏ إنّي أنزلت مال اللّه منّي منزلة مال اليتيم، إن احتجت إليه أخذت منه، فإذا أيسرت قضيت‏.‏ أمّا الاستدانة عليه‏:‏ فلما روى أبو رافعٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استسلف من رجلٍ بكراً، فقدمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم إبل الصّدقة، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره»‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ فهذه استدانةٌ على بيت المال؛ لأنّ الرّدّ كان من مال الصّدقة، وكلّ هذا يراعى فيه المصلحة العامّة، والحيطة الشّديدة في توثيق الدّين، والقدرة على استيفائه‏.‏ ويشترط لذلك على ما صرّح به الحنفيّة في الوقف - وبيت المال مثله - أن يكون بإذن من له الولاية، وأن يكون الإقراض لمليءٍ مؤتمنٍ، وألاّ يوجد من يقبل المال مضاربةً، وألاّ يوجد مستغلاّتٌ تشترى بذلك المال‏.‏ وقد صرّح الشّافعيّة بالنّسبة للوقف بأنّه يستغنى بشرط الواقف عن إذن القاضي‏.‏ وكذلك الحكم في مال اليتيم ومال الغائب واللّقطة‏.‏ وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ، موطنه مصطلح‏:‏ ‏(‏قرضٌ‏)‏ ‏(‏ودينٌ‏)‏‏.‏

آثار الاستدانة

أ - ثبوت الملك‏:‏

16 - يملك المستدين المحلّ المقابل للدّين بالعقد نفسه إلاّ في القرض، ففيه ثلاثة اتّجاهاتٍ هي‏:‏ أنّه يملك بالعقد، أو بالقبض، أو بالاستهلاك، على تفصيلٍ موطنه مصطلح‏:‏ ‏(‏قرضٌ‏)‏‏.‏

ب - حقّ المطالبة، وحقّ الاستيفاء‏:‏

17 - من آثار الاستدانة وجوب الوفاء على المستدين عند حلول الأجل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأداءٌ إليه بإحسانٍ‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مطل الغنيّ ظلمٌ»‏.‏ وندب الإحسان في المطالبة، ووجوب إنظار المدين المعسر إلى حين الميسرة بالاتّفاق‏.‏ واستدلّ لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏ وأنّها عامّةٌ في الدّيون كلّها وليست خاصّةً بالرّبا‏.‏

ج - حقّ المنع من السّفر‏:‏

18 - للدّائن في الجملة حقّ منع المدين من السّفر في الدّين الحالّ، إن لم يكن للمدين مالٌ حاضرٌ يمكنه الاستيفاء منه، أو كفيلٌ، أو رهنٌ‏.‏ وإنّما ثبت هذا الحقّ لأنّ سفر المدين قد يفوّت على الدّائن حقّ المطالبة والملازمة، وفي ذلك تفصيلٌ تبعاً لنوع الدّين، والأجل، والسّفر، والمدين‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ دينٌ‏)‏‏.‏

د - حقّ ملازمة المدين‏:‏

19 - من حقّ الدّائن أن يلازم المدين - على تفصيلٍ في هذه الملازمة - إلاّ إذا كان الدّائن رجلاً والمدين امرأةً؛ لما في ملازمتها من الإفضاء إلى الخلوة بالأجنبيّة، ولكن يجوز للدّائن أن يبعث بالمرأة تنوب عنه في ملازمتها، وكذلك العكس‏.‏

هـ - طلب الإجبار على الوفاء‏:‏

20 - يلزم المدين وفاء دينه ما دام قادراً على ذلك، فإن امتنع وكان الدّين الّذي عليه مثليّاً وعنده مثله، قضى القاضي الدّين ممّا عنده جبراً عنه‏.‏ وأمّا إن كان الدّين مثليّاً، وما عنده قيميٌّ، فقد ذهب جمهور الفقهاء ‏(‏المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، وأبو يوسف، ومحمّد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة‏)‏ إلى أنّ القاضي يبيع ما عند المدين جبراً عنه - عدا حاجاته الضّروريّة - ويقضي دينه‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يجبره القاضي على البيع، ولكن يحبسه إلى أن يؤدّي الدّين‏.‏

و - الحجر على المدين المفلس‏:‏

21 - الحجر على المدين المفلس أجازه جمهور الفقهاء، ومنعه الإمام أبو حنيفة، وتفصيل ذلك سيأتي في ‏(‏حجرٌ‏)‏ ‏(‏وإفلاسٌ‏)‏‏.‏

ز - حبس المدين‏:‏

22 - للدّائن أن يطلب حبس المدين الغنيّ الممتنع عن الوفاء‏.‏

اختلاف الدّائن والمدين

23 - إذا اختلف الدّائن والمدين ولا بيّنة لهما، فالقول قول المدين مع يمينه في الصّفة، والقدر، واليسار‏.‏ وإن كانت لهما بيّنةٌ، فالبيّنة بيّنة الدّائن في اليسار والإعسار، وتفصيل ذلك مكانه مبحث ‏(‏دعوى‏)‏‏.‏